Saturday, October 26, 2019

مقالي عن فريد الأطرش كاملاً-نشر بجريدة القاهرة 16 يناير 2018

 

 



فريد.. الأسطورة والاسم على مسمى

بقلم: لمياء مختار

كنت طفلة في الرابعة أو الخامسة ربما من عمري حين رأيته في التليفزيون المصري لأول مرة.. حين كان يغني تلك الأغنية من فيلم "عفريتة هانم": " يا حبيبي ياللي جنبي.. ياللي ساكن جوا قلبي"، وفكرت بعقلي الصغير آنذاك: من ذلك الشاب الجميل ذو الصوت العذب الذي يقف تحت الشرفة يغني؟.. إنها تشبه شرفات بيوتنا جميعاً.. فمن أين إذاً يأتي كل هذا السحر؟
حفظت اسمه في ذلك السن المبكر وسُحرت بذلك الأمير الأسطوري ذي الصوت المذهل والذي يبدو كأنه أمير قادم من من حكايات ألف ليلة وليلة.
حين كان في غمرة اليأس ولا يجد من يمد إليه يداً ليصل إلى الإذاعة المصرية وهو خير من يستحق الوصول إليها، أرسل الله له مدحت عاصم ليعجب بصوته كثيراً ويفتح له باب المجد، فالله سبحانه وتعالى بحكمته يسبب الأسباب ولا يخلق موهبة كبرى دون أن يمهد لها طريقها عبر تلك الأسباب.
جاءت بدايته مبهرة أسطورية، بها نداوة الصوت وبهاؤه وصفاؤه وعذوبته الشديدة، وبها مفاجأة الموهبة الخارقة التي اقتحمت المجال واخترقت صفوف المطربين لتتصدر القمة، عبر الفيلم الرائع الذي جمع صوتين ملائكيين سماويين فيما يندر أن يتكرر أو يقترب من المستحيل: فريد وأسمهان.
وتوالت ألحان وأفلام وأغنيات تلك الفترة الغضة المبهرة:
" أهواك وروحي فداك، وحياتك تقولي لي الحق، الحب عز وهنا، يا ريتني طير، يا زهرة في خيالي، ليالي الأنس في فيينا (ملحناً)، أوبريت ليالي الأندلس من فيلم انتصار الشباب، أحبابنا يا عين" وغيرهن.
"يا بدر.. يا نجوم.. يا ليل أشكي لمين حالي     لما تنام العيون.. والهم يصحى لي":
هو ملك الشجن في أغنياته مثلما كان ملك المرح فيهن بعكس ما يشاع عنه كمطرب حزين فقط، فقد أدى كل الأنواع وبرع فيها جميعاً بنفس الدرجة.
يتجلى الشجن كله حين ينفث أنفاس الجوى والحب الملتهب وهو يغني: "آه من آه وقولة آه.. ع اللي كواه الشوق بالنار.. سلواه إيه غير الآه"؟
وحين يشدو: "أهواك واصون حبك.. ولا اجيش على بالك".
ويتجلى المرح كله ممتزجاً بالعاطفة الجياشة حين يغني: "الحب لحن جميل، الحياة حلوة، جميل جمال، هافضل أحبك، أنا وانت والحب كفاية علينا"، وفي أوبريتاته واستعراضاته مع سامية جمال التي احتلت قمة الازدهار في السينما الغنائية الاستعراضية المصرية.
ثم تأتي مرحلة الأغنيات العاطفية ذات الشجن الواضح: "لحن الخلود أو بانادي عليك، نجوم الليل، يفيد بإيه الأنين، إياك من حبي، أول همسة، حكاية العمر كله، ما انحرمش العمر منك، بقى عايز تنساني" وغيرهن، ليختمها برائعته عظيمة الشجن: علشان ماليش غيرك.
وتأتي أغنيات له تجمع بين البهجة والشجن معاً، كأغنية الربيع الرائعة التي تتخذ إلى الآن شعاراً خالداً لفصل الربيع المورق المزهر، وكأغنية أنا واللي باحبه وهي اللحن الوحيد الذي تمنى عبد الوهاب أن يكون من إبداعه لفرط جماله.
ولم ينس الأغنيات الشامية المرحة التي تفصح عن حبه لموطنه مثلما أحب مصر التي أوصى أن يدفن فيها، فأبدع أغنيات شامية مرحة عذبة جميلة مثل:" حبينا، تؤمر ع الراس وع العين، فوق غصنك يا لمونة، لاكتب ع اوراق الشجر".
"عمرنا أيام.. أحلام بتمر قوام      حييجي يوم ندور ما نلاقيها        تعال نفرح واحنا لسه فيها":
ويشعر بقرب نهايته كما تشعر بها الأرواح الطيبة الشفافة، حين يحلم بوالدته الراحلة الأميرة علياء دامعة العينين، وحين يضيع منه المصحف الذي أهدته إياه منذ سنوات طويلة سامية جمال.
"زي الحياة من غير غنى فيها القناعة.. فيها البساطة والرضا في كل ساعة": خطر ببالي هذا المقطع من الأغنية الرائعة: "الشمس غابت أنوارها" كما خطر ببالي المقطع الرائع الآخر: "اللي توكاله على الخلاق.. يبات سعيد ويعيش سلطان.. والكسرة تبقى ف إيده رقاق.. ويصبح اللوري بولمان"، خطر ببالي المقطعان حين قرأت كلمات فريد الأطرش الأخيرة التي وردت في كتاب فريد الأطرش وأسمهان لد. رتيبة الحفني، تلك الكلمات الروحانية الرائعة التي يقول فيها:
"إنني عشت الحياة بعرضها وعمقها.. لأنني لا أعرف كم يمتد طولها.. ولهذا أترك من آثاري الفنية ما يبقى في سمع عشاقي وأحبتي عشرات السنين.. فإذا لم أكن تزوجت وإذا لم يكن لي ولد يحمل من بعدي اسمي، فإن كفاحي سوف يبقى، وما أضفته لمحصلة الفن طوال أربعين عاماً، قد سُجل في أذن الزمن وخاطر الغيب عصارة لقصتي.. هذا ما يضفي عليّ الراحة كلما سقطت إلى الفراش والموت يحوم من حولي.. لقد أديت رسالة حياتي.
وإذا كان ظاهري الذي تعرفونه، حياة فنان طليق فيها بوهيمية وإمتاع، فإن في قلبي بذور متصوف متوكل على الله في كل شيء، وإذا كنت أغضبت الله مرة أو مرات، فإنني أرضيته في مواضع كثيرة، إنني ما أذيت مخلوقاً، وتلك عند الله عظيمة. اشتهرت أسرتي بالقول: "الكريم لا يضام"، وأشهد أنني ما وجدت ضيماً قط حتى في صميم أيام الفقر.. كان الله سبحانه وتعالى يفتح للرزق أبواباً لا تخطر ببال.. وقد كانت رحلة الحياة صعوداً ليس فيها هبوط إلى درك أو هاوية.. كنت أعرف أن الله معي.. وكنت أعرف أن الكريم لا يضام".
كتب الشاعر الكبير بشارة الخوري بعد وفاة أسمهان: أضاع جبريل من قيثاره وتراً.. في ليلة ضل فيها نجمه الهادي
وهذا التعبير الأدبي لن يفهمه بالطبع المتشددون دينياً الآن، فليس به مساس بمكانة جبريل عليه السلام، وإنما هو كناية عن رحيل صوت سماوي قدم إلينا من الجنة ثم غادر سريعاً، ولدى رحيل فريد الأطرش يمكننا القول بأن وترين سماويين قد ضاعا من آلة الكون المليئة بالألحان والأسرار، ولكنهما لم يضيعا حقاً.. ففنهما باقٍ إلى الأبد.. إنه "لحن الخلود" ببساطة.

ملحوظة: لينك مقالي عن فريد الأطرش في الفيس بوك:
https://www.facebook.com/EgyptianWriterlamiaMoukhtar/posts/10156808157320148?__tn__=K-R

ملحوظة أخرى:
 تم نشر مقالي عن الفنان الكبير فريد الأطرش باسمي في "منتديات الموسيقار الكبير فريد الأطرش وشقيقته أسمهان" وقيل عنه "مقال رائع برغم صغره يتغنى بحب الموسيقار وكيف واجه الصعاب"، أشكر أصحاب المنتدى وأشكركم جميعا يا أصدقائي وأشكر طبعا جريدة القاهرة ورئيس التحرير الأستاذ عماد الغزالي
http://freed.ahlamontada.net/t27424-topic

No comments: