Saturday, January 04, 2020





مقالي كاملاً عن شادية-نشر بجريدة القاهرة بتاريخ 13 نوفمبر 2019

https://www.facebook.com/EgyptianWriterlamiaMoukhtar/posts/10156854838505148?__xts__%5B0%5D=68.ARC4xNA--SLQKVZQHbbrQqOg4WxxnyjS_3EKudNP_LUm3286R6lfnWXjbHMdeof_CUS2B-2pdcF1M6nUEtmLs9obwmNR4RLUlKx-OBy2BFpnSfp8ZucTyCdmOM81poU_ZEB6RjkS2nZ38ybG2dDl9Ky9eOk9kXiStSpyWWJ1DSBgvDusTWI9tcYl4Sy-dDp8TmYomQEXM3za0poNKGD42fXF_LdlR9RnG8rd0d-ZXqtnn-6CLGdHLS4FyDyJsGhl9SatJbmpGlxrvXeFqd_BSpjqI8IcI3jpJtN5YXDoUzCkM5KlcXZ8c3fmvuYKYCH4fkyWUk8p4VEcBL9uGw&__tn__=K-R


شادية.. ما العيب في أن تكون عصفور جنة؟

بقلم: لمياء مختار


حين أقول "عصفور جنة"، فأنا أعني عصفوراً حقيقياً من عصافير جنة الآخرة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، عصفوراً رائع الجمال مفعماً بألوان الأنوثة الدافئة: الوردي والذهبي والبرتقالي المائل إلى الأحمر، عذب الصوت رقيقه، هذه هي الصورة الذهنية التي تخطر ببالي حين أسمع اسم شادية، كمرادف لأقصى درجات الأنوثة والجمال والدلال والرقة، أكثر بكثير في رأيي من مارلين مونرو ومن سعاد حسني وهند رستم وغيرهن، ربما لا تقاربها في الأنوثة والجمال في الغربيات سوى ميج رايان وكيت وينسليت.. الأنوثة الصارخة بمعناها اللطيف الرقيق وليس المغري أو المقتحم للعيون بشراسة، وتتفوق هي عليهن بحلاوة الصوت.

قرأت مؤخراً بالصدفة مقالاً قديماً للناقد كمال النجمي نشر عام 1966 وأعيد نشره هذه الأيام في مجلة المصور بعنوان: "خدعوها.. فقالوا لا تغني!"، وهو بالظبط محور ما كنت أفكر فيه في حديثي عن شادية.. قطعة البسبوسة وجاتوه المانجو والفراولة، وطيف السعادة الهارب منا جميعاً يتبدى لنا كحلم ينبض مراوغاً لنا ذهاباً وجيئة.

إن أفلام شادية في مرحلتها الأولى التي كانت فيها صبية مرحة رائعة الجمال والصوت، لهي أفلام تخاطب فينا لا شعورياً قصص ال fairy tales، فيلم "الدنيا حلوة" هو قصة سندريلا، وتتجلى قصة سنوهوايت في أفلام: "قدم الخير" و"آمال" و"في الهوا سوا"، ما العيب في هذه الأفلام وهي التي إلى الآن نستعمل حوارها الطريف في كلامنا مثل "ازيك بجى؟" و"شد اللحاف" وغير ذلك من اللزمات البديعة؟، بل إنها تحوي إرهاصات التحول الإنساني في أداء ممثل عظيم كمحمود المليجي في أفلام مثل "غلطة أب" و"أيام شبابي"، في مرحلة تسبق بكثير تلك التي أعاد فيها اكتشافه يوسف شاهين، وهي أفلام ذات متعة كبرى وتؤرخ للمرحلة الذهبية من تاريخ السينما المصرية ولا تخلو من ممثلين مظلومين فنياً، مثل ذلك الممثل اللطيف المبدع الذي حُصر في دور واحد: محمد كامل أو عم كبريت في فيلم آمال، فلماذا يتم ظلمها ووصفها بالخفيفة؟.

ويبدو أن الجميع متأثرون بفكرة أن تكون "عميقاً" التي سخر منها رواد الفيس بوك حين لاحظوا تكرار البوست القائل بأن أفضل شيء للصباح هو القهوة وفيروز ومحمود درويش، وهي أشياء رائعة، ولكن التنميط وحصر الرائع في ذوق واحد مرفوض، ومن المرفوض أيضاً تحميل الإنسان ما لا يطيق، ولهذا أعجبني رأي قديم للفنان محمود يس حين سُئل عن مقدرة الممثل على أداء كل الأدوار فنفى ذلك، قائلاً بأن للإنسان مهما كان عظيم القدرة الفنية حدوداً تقتضيها طاقته البشرية وأدواته.

أنا لا يعنيني أن تكون ليلى مراد أو فريد الأطرش ممثليْن عظيمين، فهما أسطورتان عظيمتان في عالم الغناء والألحان، بل إن بعض الهنات التمثيلية الخفيفة مكملة لشخصيتيهما لأنها تدل على الجانب التلقائي الرقيق الجميل الذي يضيف لشخصية المطرب ولا ينتقص منها. ولهذا لم يكن من المطلوب من شادية أن تكون أل باتشينو أو توم هانكس أو أنتوني هوبكنز، ولم يكن عليها أن توتر نفسها برغبتها المحمومة في أن تكون القمة في التمثيل لدرجة اعتزالها الغناء في منتصف الستينيات كما ذكرت مجلة المصور ثم عودتها إليه لاحقاً، وهو أمر غريب حقاً.

ووجدت إجابة لتساؤلي في مقال للفنان كمال الشناوي نشر بمجلة "الاثنين والدنيا" عام 1952 وأعادت نشره مجلة صباح الخير عام 2006، يقول فيه واصفاً شادية:
"هي الطفلة التي تريد أن تسبق عمرها.. والممثلة الممتازة، لو ابتعدت عن التصنع والتكلف، تعمل أكثر مما يلزم، وهذا ضار بفنانة لا تستطيع أن تقول إنها مغنية.. ولكنك تحب سماع صوتها..".

إذاً هو وصف صادم: "لو ابتعدت عن التصنع والتكلف"، "لا تستطيع أن تقول إنها مغنية"، ولابد أن رأيه قد تغير حين شاركها بطولة فيلم المرأة المجهولة فيما بعد، ولكن لابد أن غصة ما بقيت في حلقها، وهو ما دفعها لاحقاً إلى اقتراح حذف أغنية بسبوسة من فيلم زقاق المدق مما أغضب عبد الوهاب ملحن الأغنية منها إلى آخر عمره، ولعلنا كسبنا ممثلة رائعة، ولكن مجرد تخيلها لنفسها أنها ممثلة فقط وليست مطربة يزعجني، فمن أقنعها بهذه الفكرة الغريبة؟.

وهذا يقودني إلى مناقشة نقطة أخرى لا أجد لها تفسيراً، وهي حوار شادية مع المذيعة الخليجية أمل عبدالله في برنامج "أمس.. اليوم.. وغداً" قبيل مسرحية ريا وسكينة، حيث قالت:
"في بداية حياتي اشتغلت مع محمود الشريف.. منير مراد.. أحمد صدقي.. دول في فترة كبيرة قوي كانوا معايا.. وبعدين الأستاذ الموجي والأستاذ كمال الطويل.. غير الجداد بقى"، وحين سألتها المذيعة عمن ترتاح لألحانه فيهم جميعاً ردت شادية قائلة: "بليغ كان بيريحني قوي قوي الحقيقة.. في طبقة صوتي واللون اللي أحبه..".
توقفت كثيراً عند رأي شادية هذا، ولم أفهم منه غير أنهم أقنعوها أن أغنيات بليغ حمدي لها أهم وأفضل من أغنيات توأمها الفني الحقيقي منير مراد، وأغنيات بليغ لشادية رائعة حقاً وأروعها يا حبيبتي يا مصر وأسمراني اللون وأبو العين العسلية، ولكن بليغ ليس توأم شادية الفني كمنير مراد ومن الغريب أن تقتنع هي بعكس ذلك، فكل فولة ولها كيال وبليغ هو توأم وردة الفني، ولكن شادية غنائياً = منير مراد، وألحان محمود الشريف لشادية مثل "حبينا بعضنا" و" يا نور عنيا" و"أبيض يا وردي" و"ليالي العمر معدودة" وألحان أحمد صدقي لها مثل "سحر عنيكي العسلية" وألحان رياض السنباطي لها مثل "احنا في الجنة" و"لحن الوفاء" و"3 شهور" وألحان عبد الوهاب لها مثل "أحبك" و"بسبوسة" كانت ألحاناً بديعة، ولكنها لم تكن كتلك القنبلة التي انفجرت لتشكل صوت شادية تشكيلاً جديداً يفهم صوتها تماماً ويفصل له أجمل الفساتين التي تكسوه بهاء وعذوبة ورقة عبر ألحان منير مراد لها التي بدأت ب"واحد اتنين" واستمرت عبر عشرات الأغنيات الساحرة: يا دبلة الخطوبة وما اقدرش احب اتنين وسوق على مهلك وماما يا حلوة وآلو آلو ويا سارق من عيني النوم وحاجة غريبة وتعال أقول لك وخمسة ف ستة وواحدة واحدة ويا شاغلني وقلبك خالي وشبك حبيبي ووحياتك انت وإن راح منك يا عين وفارس أحلامي و"ما تقولشي بُكره" الأغنية التي قالت عنها شادية إنها لم تلق التقدير المناسب، ومن روائع ألحانه المنسية لها أيضاً أغنية "فوت يا حبيبي وسلم"، بل إن حتى الاستعراض الوطني "يا مصر قومي وانهضي" في نهاية فيلم أنا وحبيبي يعد في نظري رائعاً.

لابد أنهم كانوا قد أقنعوا شادية بأن هذه الأغنيات هي الأخف وزناً في مسيرتها الغنائية، بينما هي الأروع على الإطلاق، مثلما أقنعوها أنها مجرد مؤدية للأغاني الخفيفة، ولكنها مطربة رائعة في حقيقة الأمر، إن رقة هذه الأغنيات وفرط عذوبتها لهو من أسباب تميزها وتفردها وليس دليلاً على الوزن الخفيف فنياً، فأي ظلم لها ولأغنياتها البديعة نتيجة للفذلكة النقدية والتقعر والتعالي على الرقيق العذب من الفنون؟.

حين كنت أشاهد وأنا طفلة أغنية "ما اقدرش احب اتنين" في التليفزيون المصري، كنت أتخيل أحد مشاهدها أنموذجاً لجنة الخلد، وهو المشهد الذي تهبط فيه شادية سلالم الحديقة ذات الأعمدة بينما يحمل أحد الراقصين راقصة ترتدي فستاناً أبيض جميلاً ويدور بها، ولعل هذه الصورة العذبة هي أول ما يخطر ببالي إلى الآن حين يذكر اسم شادية، ولعل صورة الرقة والعذوبة صوتاً وشكلاً وأداءً هي التي ستبقى في مخيلة الناس عن شادية للأبد، ولعلها هي نفسها الآن قد تحولت إلى عصفور يطير في الجنة مغرداً أعذب الألحان.. من يدري؟.


                                                            لمياء مختار
"عضو اتحاد كتاب مصر، وصدر لها من قبل رواية "رتوش اللوحة" ومسرحية "ولكنه موتسارت" وديوان شعر "ضفائر الورد والندى" وشاركت بقصص قصيرة في الكتاب الجماعي "الفزع في  كلمات"".