Saturday, October 26, 2019

مقالي كاملاً عن منير مراد-نشر بجريدة القاهرة في 23 أكتوبر 2018

https://www.facebook.com/EgyptianWriterlamiaMoukhtar/posts/10156808296085148?__xts__%5B0%5D=68.ARBBXJ2lanSLEqmA-yh7bIitdmjxi5nUuph5iSLn8liiOOKeHRZpRkbJske5csDLIps5CUo1RFcDaxR8HCyLEm9mbmfXxNDbKzIhdBOC7gMjU7z4XuF6XgqqwHziFpUy8_jm5TOBJTyFN9GfK2amk1uE42tOD0vcRLMZ-mW1_YXLfFGqXdS_ndjqhUBvzE-Y4EfRDWmprYiR4xnaWgNi2KWmb1EkTe0g79cnbKTDZnYM1eNBdjxTzYnOP-H-KXEMDA6juEQ5lCN3Vy-6-s1lF_h3v5_17bjQm8aUzveGpbnIpTuXVntTAvXz86zAkxJbXNnbLFha3Pw465rhMw&__tn__=K-R


مقالي كاملاً عن منير مراد-نشر ب



جريدة القاهرة في 23 أكتوبر 2018




منير مراد: "ياما جنايني بدمعه رواه"

بقلم: لمياء مختار

ترى، هل كان يخطر ببال منير مراد وهو يلحن الأغنية العذبة "سوق على مهلك" لشادية، أن ذلك المقطع منها الذي يقول: "بكرة الورد اللي زرعناه.. يكبر طول ما احنا بنرويه" فيكون الرد: "ياما جنايني بدمعه رواه.. وصبح لقى غيره بيجنيه"، ترى هل خطر بباله أن هذا المقطع سينطبق عليه شخصياً، فيصبح هو "الجنايني" الذي رعى زهور الموسيقى بدمه وقلبه وروحه وأخلص لفنه منذ صغره وحتى آخر عمره، فإذا به لا يجني زهوره ولا يلقى عـُشر التقدير اللائق بموهبته الضخمة؟..

إن أنموذج منير مراد هو كابوس أي فنان مبدع.. كابوس أن تكون عبقرياً متعدد المواهب فينقلب هذا عليك، لأن الناس لا يستطيعون أن يصدقوا أنك تتمتع بعدة مواهب فيبخسون قدر موهبتك الكبرى المهيمنة، فإذا بالمحصلة في مخيلتهم تتضاءل من حجم الجبل إلى حجم الحصاة، خاصة لو كان المبدع سابقاً عصره بشدة، وخاصة مع العلاقة الملتبسة دائماً وأبداً بين المبدع والمؤدي والمتلقي الذي لا يقدّر المبدع عُشر تقديره للمؤدي في أغلب الأحيان..

ربما ليس منير مراد وحده المنسي بين ملحنينا الكبار الذين لم يعد الناس يذكرونهم ولم يُـقدَّروا حق قدرهم، مثل محمود الشريف وأحمد صدقي وغيرهما، ولكن منير مراد يختلف عنهم في سبقه لعصره وكأنه من عصرنا أو حتى من المستقبل، وهو يشبه في هذا الرائع محمد فوزي الذي تحل ذكراه أيضاً في شهر أكتوبر..

منير مراد الذي كان يصلح وجهاً سينمائياً وسيماً يمكنه أن يؤدي أدوار الفتى الأول، للعجب لا يحقق في السينما النجاح المرجو رغم كون فيلميْه اليوم من أهم مصادر المتعة السينمائية والموسيقية الشديدة في الفضائيات لتفردهما بمذاق رائع خاص بهما وحدهما بين الأفلام الغنائية والاستعراضية القديمة، خاصة فيلم "أنا وحبيبي" الذي تكلف 11 ألف جنيه وكانت أرباحه 116 ألف جنيه حسب كلام منير مراد، ولكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، فلم ينجح فيلمه الثاني "نهارك سعيد" ولم يتقبل الجمهور منير مراد كبطل سينمائي، ربما لملامحه الأقرب للأجنبية، وربما لأنه يؤدي الاستعراضات بنفسه بينما العقلية الشرقية في أعماقها مهما بدت متفتحة فإنها لا تستسيغ فكرة كون الرجل فناناً استعراضياً.. وربما لأن إيقاع ألحانه السريع كان سابقاً عصره بشدة.. وربما لأن ثقته الزائدة بنفسه جعلته يؤدي فيلمه الثاني بدون بطولة نسائية موازية معتمداً على قدراته الاستعراضية وعلى كونه يقدم نوعية جديدة في السينما آنذاك، ولكن أثبتت التجربة خطأ تلك الثقة الزائدة التي لم يجرؤ أحد عليها حتى فريد الأطرش ومحمد فوزي وعبد الحليم حافظ، فالسينما تعتمد على البطولة النسائية بشكل أساسي..

ويتفرغ منير مراد لموهبته الكبرى: التلحين، فإذا بصورته كملحن في مخيلة الناس تتأثر بالسلب بصورة الراقص الاستعراضي!، وهو ما لم يتوقعه منير مراد بروحه البسيطة البريئة المرحة التي لا تفكر بتعقيدات العقلية الشرقية، وهو ما يذكرني بموقف يُحكى أنه حدث للسيناريست الكبير السيد بدير حين ذهب بصفته أحد مسئولي الإذاعة المصرية لمقابلة محافظ، ولكن يكتشف المحافظ أن السيد بدير المسئول الإذاعي هو نفسه الممثل الذي يؤدي دور عبد الموجود ابن كبير الرحيمية، فإذا به يرفض مقابلته!، تلك كانت النظرة للفنون، وكانت نوعية الكوميديا والاستعراض تنتقص في أعين الناس من باقي مواهب الفنان للأسف.. وهذا هو عين ما حدث لمنير مراد..

منير مراد هو قصة كفاح في دراسة الموسيقى وحب السينما والدأب والسعي الجاد من الصغر من أجل تعلم الفنيْن على أصولهما، ولم يأته النجاح على طبق من ذهب لكونه شقيق ليلى مراد كما قد يتخيل البعض، يحكي منير مراد بخفة ظل في لقاء إذاعي قديم مع الإذاعية أمينة صبري عن عشقه في طفولته لآلة القانون الشرقية الأصيلة وحفظه وهو طفل لألحان القصبجي وزكريا أحمد وداود حسني، وعن حبه للموسيقى السودانية ولموسيقى دول الشرق الأقصى كاليابان وسنغافورة، وعن عشقه للسينما الذي جعله يعمل مساعد مخرج خمسة عشر عاماً، يحكي عن تتلمذه في الأربعينيات في شبابه الباكر على يد أندريا رايدر في معهد إيطالي للموسيقى في الإسكندرية، وكيف تعلم من أندريا رايدر فكرة "الميلودي" أو روح اللحن المميزة له والتي تجعل الناس تحفظه وتنفعل به ويبقى في ذاكرتها، ومثلما كان منير مراد تلميذاً نجيباً فقد كان أندريا رايدر أستاذاً ناجحاً بلا شك، بدليل أن رايدر صار أحد أهم واضعي الموسيقى التصويرية على الإطلاق في أفلامنا المصرية الشهيرة كدعاء الكروان وغروب وشروق وغيرها من الروائع، بل إن فريد الأطرش ذاته وهو من هو في عالم الموسيقى استعان بأندريا رايدر في توزيع موسيقى فريد التصويرية لفيلمه الرائع "الحب الكبير"..

يقول منير مراد بثقة الفنان واعتزازه بنفسه وفنه والتي تحوي أيضاً مرارة خفية كمن يصرخ في أعماقه مطالباً بجزء ضئيل من حقه في التقدير المعنوي: "أنا ما اطلّعش لحن إلا لما يكون "جون" في الشبكة.. مش ممكن أعمل لحن يحود كده يمين والا شمال.. أنا عملت كل استعراضات السينما اللي على مدار ال 35 سنة اللي فاتوا.. والدويتو اللي انا باعمله بمثابة 10 ألحان لأم كلثوم، لأن الدويتو أصعب حاجة في التاريخ.. الشاطر من الملحنين اللي يعمل دويتو.. ما كانش فيه اتنين يعملوا دويتو ف مصر غير محمد فوزي ومنير مراد"..

يقول الكاتب وسام الدويك في كتابه "التياترجي منير مراد": "قال المؤرخ الموسيقي الكبير كمال النجمي: إن منير مراد يفهم جيداً في الموسيقى الغربية، ويتذوق عن حب وعلم الموسيقى العربية، ولهذا أمكنه أن يقدم أفضل مزيج من لقاء موسيقى الغرب بالشرق، وللأسف الشديد فإن زملاء منير مراد بدوا بعد وفاته وكأنهم اتفقوا على نسيانه!"..

لقد ترسخ انطباع ظالم في الأذهان بأن منير مراد ملحن من العيار الخفيف لمجرد رشاقة ولطف ألحانه وسبقها لعصرها، وهو ما يجعل البعض عند حديثه عن الملحنين الذين تعاون معهم عبد الحليم حافظ يُسقط منير مراد من الذكر وكأنه يقل عن الموجي وكمال الطويل وبليغ حمدي!، وهو نفس الانطباع الذي حرمه من التعاون مع أم كلثوم برغم أن هذه الفرصة الذهبية أتت لجميع زملائه، ولم يدرك الناس أن هذه "الخفة" مقصودة وسهلة ممتنعة بها عبقرية لا يدركها إلا قليل..

بدأ منير مراد التلحين بأغنية "واحد اتنين" والتي كانت انطلاقته وانطلاقة شادية، ومن هنا شكلا معاً ثنائياً فنياً رائعاً فقد لحن لشادية ما بين ال 600 وال 700 أغنية حسب تقدير منير مراد التقريبي، إن جميع الأغنيات الرائعة لشادية على مدى عشرين عاماً قبل دخولها في مرحلة الأغنيات الطويلة كانت من تلحينه.. فهو وحده الذي شكل شخصيتها في الغناء ولا ينسب هذا الفضل لسواه، أما عبد الحليم حافظ فقد لحن له منير مراد أغنيات رائعة أيضاً مثل بأمر الحب وباحلم بيك وأول مرة تحب يا قلبي وضحك ولعب وجد وحب وغيرها، ومن المعروف أيضاً أنه لحن جميع دويتات شادية مع عبد الحليم حافظ عدا أوبريت لحن الوفاء فقد كان للسنباطي..

ولم ينس بالطبع شقيقته ليلى مراد فقد لحن لها واحدة من أعذب أغنياتها وهي "يا طبيب القلب"، وأيضاً "أنا زي ما انا" والأغنية الوطنية النادرة "يا رايح على صحراء سينا.. سلم على جيشنا اللي حامينا.. قل له احنا معاك.. وحياتنا فداك.. ولا يغلى عليك أغلى ما فينا" التي غنتها من ألحان منير بعد نكسة 1967، وربما كان من أجمل أغنياته الوطنية أيضاً "يا مصر قومي وانهضي" التي كانت في فيلمه الأول.. وقد تعاون مع  المطربين ذوي الطراز المختلف مثل فايزة أحمد في أغنية "شغلوني عيونك" التي قال عنها عمار الشريعي إنها جمعت بين الفلامنكو الإسباني ومقام الحجاز، ومثل وردة في "رحالة" و"من يوميها"..

ويصف أحد باحثي الموسيقى وهو د. أسامة عفيفي استخدام منير مراد للمقامات بشكل عبقري فيقول: "إن انقلاب لحن "ضحك ولعب وجد وحب" في مقطع "أيوه يا دنيا" من الماجير إلى السيكاه انقلاب يحسبه السامع لأول وهلة يكاد يهدم بناء اللحن كله، وقطعاً هناك محاولات كثيرة كهذه سبقت هذا اللحن بواسطة ملحنين آخرين، ولكن انقلاب المقامات في لحن منير نجح بينما فشل فيه آخرون، أما لحن "إن راح منك يا عين.. ح يروح من قلبى فين؟" من كلمات فتحي قورة، فقد بلغ من الرقة أنه يعبر عن إحساس عميق بالحيرة بين الأمل وخيبته، انكسار حزين فى الشطرة الأولى ثم تفاؤل فى الشطرة الثانية، والتعبير عن الموقفين المتضادين يأتيك في ثوان معدودة وبمنتهى الدقة.. أما عملياً فقد توقف بالأولى على ركوز مقام النهاوند العاطفى ثم هبط نصف درجة ليلمس بالكاد حساس المقام الأدنى تأكيداً للانكسار ثم يصعد فى الشطرة الثانية ليتوقف بنهايتها على الدرجة الثانية وهى درجة غير مستقرة توحي غالباً بالتساؤل، وهو تعبير غاية فى التوفيق دقيق الإحساس عميق الشعور يحقق الجو النفسي الذي أراده الشاعر"..

إن منير مراد كان الجواد الرابح في السباق لجميع المطربين وكان "الولد الشقي" في الموسيقى إن جاز التعبير، إنه عفريت يعرف جيداً كيف يخطف روحك ويأسرك تماماً بالميلودي كما يقول أو روح اللحن الطاغية التي تبقى في ذاكرتك للأبد.. وكأنه ذلك الحصان الطيار في ألف ليلة وليلة الذي يطير بك ليريك أماكن في اللحن لم تكن تخطر ببالك..

منير الشعبي: "غلاب الهوى" الموسيقي لديه:
"ياللي انت غاوي ليه تصدق يوم كلام عذال": حين يـُـذكر اسم مها صبري فغالباً سيقفز إلى ذهنك ذلك المقطع من الأغنية الرائعة "غلاب الهوى".. إنها لحنه الذي غير فيه جلده فمزج الشعبي بالإيقاع الراقص الحديث.. وكيف لا يتجدد فنه كل حين وروحه ملأى بالهوى الموسيقي "الغلاب" والطاغي؟، وحين يذكر اسم شريفة فاضل فبالتأكيد ستقفز إلى ذهنك أغنيات "الليل" و"حارة السقايين" و"الصبر".. إنهن ألحانه، وحين يذكر اسم عايدة الشاعر ستــُـدهش حين تعرف أن الأغنية الوحيدة الرقيقة شبه الحزينة التي تجمع ما بين اللونين العاطفي والشعبي لها من كلمات عبد الرحيم منصور "ما يهونش عليّ اسيبه" هي لحن منير مراد، وقد يخطر ببالك حين تسمع اسم محمد رشدي أغنية "كعب الغزال".. إنها لحنه الذي أدهش الكثيرين وجعلهم يظنون أنه لبليغ حمدي لتميز رشدي مع بليغ، وربما حين تسمع اسم سعاد مكاوي تقفز إلى ذهنك أغنية "وحشني كتير".. إنها لحنه، لقد مر منير مراد بمرحلة شعبية ناجحة بشدة في التلحين أثبت فيها أنه "ابن بلد" وليس "خواجة" كما يظن الجميع، فأعطى للأغنية الشعبية مذاقاً مختلفاً بشدة عبر إيقاع راقص راقٍ مستمد من الروح المصرية الصميمة، وهو ما جعل كل أغنياته HITS بالمصطلح الأجنبي الذي يعني بالعامية المصرية "تكسر الدنيا"..

"قسمة ونصيب":
حتى الأجيال الجديدة التي ظهرت في أواخر عمره نجح بشدة في التعامل معها بروحه التي ظلت شابة كأنه في العشرين حتى مع تقدمه في العمر نسبياً (لأنه لم يتقدم به العمر كثيراً فقد رحل عن دنيانا في الخمسينيات من عمره، في 17 أكتوبر 1981)، فجاءت أغنيته الرائعة لعفاف راضي "ابعد يا حب" لتضفي عليها لوناً ومذاقاً مختلفين عن اللون والمذاق الرائعين اللذيْن صبغ بهما بليغ حمدي شخصيتها الغنائية، كما أن هاني شاكر استطاع أن يلحق بمنير مراد فلحن له أغنيتيْ "تسلم لي عيونه الحلوين" و"قسمة ونصيب"..

وتلك كانت "قسمة منير مراد ونصيبه" في الدنيا التي ضنت عليه بما يستحق من تقدير.. ولكن المدهش أن الفن الرائع يفرض نفسه، فالأجيال التي لم تعاصره –ومنهم جيلي والجيل الأصغر سناً- بدأت تنتبه في الإنترنت إلى عبقريته، وكأنه ما كان ينتمي لزمنه.. بل لزمن تالٍ بخمسين عاماً على الأقل، ولعل هذا من حظه.. فرب ضارة نافعة، فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أن يكون من قدر بعض المبدعين أن يحدث لهم ما يثير التعاطف، كبخس الحق، فإذا بهذا التعاطف المبدئي يدفع محبيهم إلى التعمق في دراسة فنونهم، ولعل أرواح هؤلاء المبدعين تشعر بهذا التقدير المتأخر وهي في عالم البرزخ فترضى وتسعد، ففي حقيقة الأمر لا شيء يضيع..


ملحوظة: لينك مقالي عن الفنان الكبير الراحل منير مراد في صفحتي على الفيس بوك:

 https://www.facebook.com/EgyptianWriterlamiaMoukhtar/posts/10156808296085148?__xts__%5B0%5D=68.ARBBXJ2lanSLEqmA-yh7bIitdmjxi5nUuph5iSLn8liiOOKeHRZpRkbJske5csDLIps5CUo1RFcDaxR8HCyLEm9mbmfXxNDbKzIhdBOC7gMjU7z4XuF6XgqqwHziFpUy8_jm5TOBJTyFN9GfK2amk1uE42tOD0vcRLMZ-mW1_YXLfFGqXdS_ndjqhUBvzE-Y4EfRDWmprYiR4xnaWgNi2KWmb1EkTe0g79cnbKTDZnYM1eNBdjxTzYnOP-H-KXEMDA6juEQ5lCN3Vy-6-s1lF_h3v5_17bjQm8aUzveGpbnIpTuXVntTAvXz86zAkxJbXNnbLFha3Pw465rhMw&__tn__=K-R

مقالي عن فريد الأطرش كاملاً-نشر بجريدة القاهرة 16 يناير 2018

 

 



فريد.. الأسطورة والاسم على مسمى

بقلم: لمياء مختار

كنت طفلة في الرابعة أو الخامسة ربما من عمري حين رأيته في التليفزيون المصري لأول مرة.. حين كان يغني تلك الأغنية من فيلم "عفريتة هانم": " يا حبيبي ياللي جنبي.. ياللي ساكن جوا قلبي"، وفكرت بعقلي الصغير آنذاك: من ذلك الشاب الجميل ذو الصوت العذب الذي يقف تحت الشرفة يغني؟.. إنها تشبه شرفات بيوتنا جميعاً.. فمن أين إذاً يأتي كل هذا السحر؟
حفظت اسمه في ذلك السن المبكر وسُحرت بذلك الأمير الأسطوري ذي الصوت المذهل والذي يبدو كأنه أمير قادم من من حكايات ألف ليلة وليلة.
حين كان في غمرة اليأس ولا يجد من يمد إليه يداً ليصل إلى الإذاعة المصرية وهو خير من يستحق الوصول إليها، أرسل الله له مدحت عاصم ليعجب بصوته كثيراً ويفتح له باب المجد، فالله سبحانه وتعالى بحكمته يسبب الأسباب ولا يخلق موهبة كبرى دون أن يمهد لها طريقها عبر تلك الأسباب.
جاءت بدايته مبهرة أسطورية، بها نداوة الصوت وبهاؤه وصفاؤه وعذوبته الشديدة، وبها مفاجأة الموهبة الخارقة التي اقتحمت المجال واخترقت صفوف المطربين لتتصدر القمة، عبر الفيلم الرائع الذي جمع صوتين ملائكيين سماويين فيما يندر أن يتكرر أو يقترب من المستحيل: فريد وأسمهان.
وتوالت ألحان وأفلام وأغنيات تلك الفترة الغضة المبهرة:
" أهواك وروحي فداك، وحياتك تقولي لي الحق، الحب عز وهنا، يا ريتني طير، يا زهرة في خيالي، ليالي الأنس في فيينا (ملحناً)، أوبريت ليالي الأندلس من فيلم انتصار الشباب، أحبابنا يا عين" وغيرهن.
"يا بدر.. يا نجوم.. يا ليل أشكي لمين حالي     لما تنام العيون.. والهم يصحى لي":
هو ملك الشجن في أغنياته مثلما كان ملك المرح فيهن بعكس ما يشاع عنه كمطرب حزين فقط، فقد أدى كل الأنواع وبرع فيها جميعاً بنفس الدرجة.
يتجلى الشجن كله حين ينفث أنفاس الجوى والحب الملتهب وهو يغني: "آه من آه وقولة آه.. ع اللي كواه الشوق بالنار.. سلواه إيه غير الآه"؟
وحين يشدو: "أهواك واصون حبك.. ولا اجيش على بالك".
ويتجلى المرح كله ممتزجاً بالعاطفة الجياشة حين يغني: "الحب لحن جميل، الحياة حلوة، جميل جمال، هافضل أحبك، أنا وانت والحب كفاية علينا"، وفي أوبريتاته واستعراضاته مع سامية جمال التي احتلت قمة الازدهار في السينما الغنائية الاستعراضية المصرية.
ثم تأتي مرحلة الأغنيات العاطفية ذات الشجن الواضح: "لحن الخلود أو بانادي عليك، نجوم الليل، يفيد بإيه الأنين، إياك من حبي، أول همسة، حكاية العمر كله، ما انحرمش العمر منك، بقى عايز تنساني" وغيرهن، ليختمها برائعته عظيمة الشجن: علشان ماليش غيرك.
وتأتي أغنيات له تجمع بين البهجة والشجن معاً، كأغنية الربيع الرائعة التي تتخذ إلى الآن شعاراً خالداً لفصل الربيع المورق المزهر، وكأغنية أنا واللي باحبه وهي اللحن الوحيد الذي تمنى عبد الوهاب أن يكون من إبداعه لفرط جماله.
ولم ينس الأغنيات الشامية المرحة التي تفصح عن حبه لموطنه مثلما أحب مصر التي أوصى أن يدفن فيها، فأبدع أغنيات شامية مرحة عذبة جميلة مثل:" حبينا، تؤمر ع الراس وع العين، فوق غصنك يا لمونة، لاكتب ع اوراق الشجر".
"عمرنا أيام.. أحلام بتمر قوام      حييجي يوم ندور ما نلاقيها        تعال نفرح واحنا لسه فيها":
ويشعر بقرب نهايته كما تشعر بها الأرواح الطيبة الشفافة، حين يحلم بوالدته الراحلة الأميرة علياء دامعة العينين، وحين يضيع منه المصحف الذي أهدته إياه منذ سنوات طويلة سامية جمال.
"زي الحياة من غير غنى فيها القناعة.. فيها البساطة والرضا في كل ساعة": خطر ببالي هذا المقطع من الأغنية الرائعة: "الشمس غابت أنوارها" كما خطر ببالي المقطع الرائع الآخر: "اللي توكاله على الخلاق.. يبات سعيد ويعيش سلطان.. والكسرة تبقى ف إيده رقاق.. ويصبح اللوري بولمان"، خطر ببالي المقطعان حين قرأت كلمات فريد الأطرش الأخيرة التي وردت في كتاب فريد الأطرش وأسمهان لد. رتيبة الحفني، تلك الكلمات الروحانية الرائعة التي يقول فيها:
"إنني عشت الحياة بعرضها وعمقها.. لأنني لا أعرف كم يمتد طولها.. ولهذا أترك من آثاري الفنية ما يبقى في سمع عشاقي وأحبتي عشرات السنين.. فإذا لم أكن تزوجت وإذا لم يكن لي ولد يحمل من بعدي اسمي، فإن كفاحي سوف يبقى، وما أضفته لمحصلة الفن طوال أربعين عاماً، قد سُجل في أذن الزمن وخاطر الغيب عصارة لقصتي.. هذا ما يضفي عليّ الراحة كلما سقطت إلى الفراش والموت يحوم من حولي.. لقد أديت رسالة حياتي.
وإذا كان ظاهري الذي تعرفونه، حياة فنان طليق فيها بوهيمية وإمتاع، فإن في قلبي بذور متصوف متوكل على الله في كل شيء، وإذا كنت أغضبت الله مرة أو مرات، فإنني أرضيته في مواضع كثيرة، إنني ما أذيت مخلوقاً، وتلك عند الله عظيمة. اشتهرت أسرتي بالقول: "الكريم لا يضام"، وأشهد أنني ما وجدت ضيماً قط حتى في صميم أيام الفقر.. كان الله سبحانه وتعالى يفتح للرزق أبواباً لا تخطر ببال.. وقد كانت رحلة الحياة صعوداً ليس فيها هبوط إلى درك أو هاوية.. كنت أعرف أن الله معي.. وكنت أعرف أن الكريم لا يضام".
كتب الشاعر الكبير بشارة الخوري بعد وفاة أسمهان: أضاع جبريل من قيثاره وتراً.. في ليلة ضل فيها نجمه الهادي
وهذا التعبير الأدبي لن يفهمه بالطبع المتشددون دينياً الآن، فليس به مساس بمكانة جبريل عليه السلام، وإنما هو كناية عن رحيل صوت سماوي قدم إلينا من الجنة ثم غادر سريعاً، ولدى رحيل فريد الأطرش يمكننا القول بأن وترين سماويين قد ضاعا من آلة الكون المليئة بالألحان والأسرار، ولكنهما لم يضيعا حقاً.. ففنهما باقٍ إلى الأبد.. إنه "لحن الخلود" ببساطة.

ملحوظة: لينك مقالي عن فريد الأطرش في الفيس بوك:
https://www.facebook.com/EgyptianWriterlamiaMoukhtar/posts/10156808157320148?__tn__=K-R

ملحوظة أخرى:
 تم نشر مقالي عن الفنان الكبير فريد الأطرش باسمي في "منتديات الموسيقار الكبير فريد الأطرش وشقيقته أسمهان" وقيل عنه "مقال رائع برغم صغره يتغنى بحب الموسيقار وكيف واجه الصعاب"، أشكر أصحاب المنتدى وأشكركم جميعا يا أصدقائي وأشكر طبعا جريدة القاهرة ورئيس التحرير الأستاذ عماد الغزالي
http://freed.ahlamontada.net/t27424-topic