Saturday, June 03, 2006


تدوين عالم المدونات


قصة قصيرة بعنوان  


براءة


بقلم :

لمياء مختار

 


مثلما تتراكم قطرات المياه الرقيقة الضعيفة الهينة الحنون – أو المتظاهرة بالحنان لتـُجري أغراضاً لها ماكرة – فوق عاتي الصخر شيئاً فشيئاً حتي تنحته و تحفر بداخله كأنها أصابع فنان لدنة ماهرة تعيث بالمادة فناً و إبداعاً ، و مثلما تغزل خيوط الفجر الواهنة نسيجها الذهبي الرقيق في زمن قصير فإذا بظلمة الليل الموحشة تنبلج ضياء باهراً مشوباً بزرقة السماء الشفافة ، و كأن أشعة الصباح تلك أرواح وليدة تولد كل يوم لتسكب ألواناً جديدة متغيرة تغير شكل و لون أيامنا ثم تفني في المساء ليولد غيرها في اليوم التالي الجديد ، و مثلما تنسل الشعيرات البيضاء زاحفة في رأس الإنسان شعرة وراء الأخري فإذا بهن يشعلن الرأس شيباً قبل أن يفيق صاحبهن لمؤامرتهن ، فيجد نفسه قد صار في وهلة شيخاً ، و مثلما .. ، و مثلما .. ، كذلك لا يعرف أحد كيف تتعقد الحياة ، وكيف بعد أن نظن أننا قد ملكنا اتجاه زورقها ليتجه بنا إلي مرامنا ، نجد رياحها العاتية تلقي بنا إلي حيث لم يخطر ببال أحد ، و كيف تتحول البحيرة الصافية اللامعة إلي مياه راكدة قاتمة ، و كيف تضع الحياة بمهارة غلالة رقيقة فوق أخري علي صفحة آمالنا الوردية فإذا بأستار اللون القاتم قد تكدست لتحجب عن أعيننا ذلك الشعاع الوردي القديم ، و كيف .. ، و كيف .. ، ما من أحد يعرف كيف تتعقد الأمور و تتحول الحياة في لحظة من زهرة ناضرة إلي صبار شائك ؟ ..

كل هذه الأفكار لم تخطر ببال " أمل " .. تلك المرأة الشابة الحامل الجالسة في ذلك الأتوبيس العام المزدحم ، لأن ثقافتها و تعليمها أبسط بكثير من أن تخطر ببالها هذه الأفكار المختلطة المتزاحمة تزاحم الناس من حولها ، إنما كانت تحس بهذه المعاني بشكل عام غائم كضباب الصباح المشوش ، كما يحس الناس بنسمات الهواء دون أن يروه ، أو كما يفتح الطفل عينيه في الصباح لشعاع الشمس يداعب جفنيه قبل أن يراه ، أو كما تستيقظ الزهرة علي لمسات الندي ، كانت " أمل " تحرك عينيها في حيرة و ترسل نظرات ليس لها معني متأملة من حولها ، إلي أن ثبتت عيناها علي وجه صغير ، وجه طفلة في حوالي الثامنة من عمرها ، يشع كالقمر المنير بياضاً وبهاء ، بينما تتناثر خصلات شعرها القصيرة المجعدة قليلاً فوق جبينها ، و صدرت من الطفلة ضحكة صغيرة فظهرت " سنة " مكسورة لها زادتها جمالاً ، كأنها ذلك النقص الذي يعتري اللوحة الجميلة فيزيد من قيمتها ، أو تلك اللبنة التي كان بعض الأثرياء في الماضي البعيد يحرصون علي عدم وضعها في مكانها لدي بنائهم بيتاً جديداً ، فتري العين في النهاية بناء باهراً مهيباً حلاوته في نقصه ، و شموخه في ذهاب بعضه ..
و مادت الذكريات بأمل ، و رمقت تلك الطفلة بنظرات حسيرة بينما أخذت ترمق نفسها بعين الخيال بنظرات أخري ، رباه .. ما الذي حولها و هي في ناضر سني عمرها إلي تلك المرأة الذابلة الجمال الشاحبة الوجه غير متناسقة الجسم مترهلته ، إنها تذكر أنها منذ وهلة ليست بالبعيدة لم تكن تختلف كثيراً عن تلك الطفلة ، كانت فتاة مشرقة الوجه طويلة الشعر تضفره و تطلق ضفيرتها تلك في الهواء كضحكة ذات صدي ، و كان لها آمال ، و كان لها غد ، إنها لا تذكر كيف تراكمت الأحداث عليها ، فهاهي تكتفي بالدبلوم ، و تتطلع إلي الزواج من فتاها الذي عرفته منذ الطفولة ، و لكن الفتي يتركها و يتخلي عنها فجأة ، و لا تجد أمام ضغط الأهل و الفراغ سوي قبول أول طارق لبابهم ، و تحين منها التفاتة فجأة إلي زوجها النائم بجوارها ، يا له من رجل يكبرها بأكثر من عشرين عاماً ، و تتأمل أوداجه المنتفخة و خديه البارزين و شاربه الكث و ملامحه القاسية ، و تتذكر ضربه المبرح لها في بعض الأحيان لغير سبب واضح ، و تتذكر كراهيتها له و تفكيرها في الانفصال عنه في أحيان أكثر ، و لكن الأطفال الذين شغلها بهم كونوا سداً منيعاً يحول دون ذلك التفكير حتماً ، فهي تحبهم و تفني فيهم رغم كل شيء ، و تأملت بطنها المرتفعة كأنها تحدث نفسها : آه يا طفلي الحبيب لو أني كنت أحب أباك .. لكان حبي لك شيئاً آخر ، و في حركة غير إرادية تعيد إلي الوراء خصلة من شعرها تناثرت فجأة ، و تمر يدها علي وجنتها البارزة التي صارت خشنة فتتحسر و تطلق تنهيدة حارة ، و لكن أناملها تمر سريعاً أيضاً علي أذنها فتقع علي الحلق " الحمصة " الصغير الذي ما فارق أذنها منذ الطفولة ، فتبتسم ابتسامة خاطفة كأن حلماً سريعاً ومض في السحاب قبل أن يهبط بها إلي أرض الواقع ، و تنظر إلي أذن الطفلة التي ترمقها ، فتري حلقاً " حمصة " مشابهاً في أذنها ، فتتسع ابتسامتها حين تدرك أن هناك شيئاً بسيطاً مشتركاً بينهما ، يشبه خيط دخان أو وهم سراب ، و لكنه شيء علي أي حال ، و سرعان ما تنتبه إلي وجود بائع ليمون متجول إلي جوارها فتنسي كل شيء و تعود لحياتها الرتيبة و تقلب في الليمون و تفاصل البائع ..

علي مقعد آخر ليس ببعيد كان يجلس شاب أسمر رقيق الحال يدعي " أحمد " ، و ياللعجب لقد كان يتأمل تلك الطفلة أيضاً ! .. إن شيئاً واحداً خطر بباله آنذاك : و هو أن لها حياة ممتدة كصفحة بيضاء طويلة ، إنها ما زال أمامها الفرصة لتصبح شيئاً كبيراً و يكون لها مستقبل عريض ، أما هو ! .. واحسرتاه فقد كان يأمل أن يدخل كلية بعينها ، ولكن هاهو الحلم تبدد ، فلم يفصله عنها إلا درجة واحدة ! .. درجة واحدة حالت بينه و بين ما يتمناه ، إنه كان أفضل مستوي من صديق له دخل الكلية التي كان يتمناها ، ولكنه لا يدري ماذا حدث له ليلة الامتحان .. لقد سهر لا من أجل المذاكرة .. بل سهر يشاهد أحد الأفلام ! .. ياللغباء ! .. لقد ضيع آمالاً له كباراً بهذه التفاهات .. آه لو عاد به الزمان للوراء قليلاً .. و لكن .. لا فائدة من هذا الكلام .. و هاهو يحاول أن يقنع نفسه أنه قد استفاد شيئاً ما من مشاهدة هذه الأفلام التي يعتقد أنها السبب في ضياع مستقبله – وما أضيقها من نظرة – يقول لنفسه : علي الأقل لقد حفظت أغاني الفيلم ، و في حركة غير إرادية أيضاً يخرج الموبايل من جيبه ليستمع إلي نغماته التي من بينها أغنية شهيرة بهذا الفيلم ، ثم ينظر إلي صديقه العاطل خريج الجامعة الذي يجلس بجانبه وكأنه يعزي نفسه فقد خطر بباله : هاهو ذا بلا عمل و قد تخرج في الكلية التي كان يرغب في دخولها ، رغم أنه يدرك جيداً أن هذا ليس بعزاء ، لكنها علي أي حال حيلة نفسية تتكرر كثيراً تشبه القشة التي يتعلق بها الغريق ، و يبدأ أحمد في العبث بنغمات الموبايل مخاطباً صديقه و هارباً من أفكاره : هل سمعت أحدث ما أدخلته من نغمات ؟ ..

بينما كان علي مقربة من هذين يجلس " سامي " المعيد في الجامعة ، و الذي كافح كثيراً حتي وصل إلي هذه الوظيفة المرموقة ، و كان هو أيضاً يتأمل وجه هذه الطفلة التي تتحرك كثيراً ، لم يكن يفكر في البراءة أو في الجمال ، بل كان يشغل خاطره شيء واحد ، هو أنه كان يغبطها لأنها ما زالت صفحة بيضاء – و لا يعني ذلك البراءة فحسب – بل يعني الشيء الأهم بالنسبة له ، و هو أنها بلا عقد نفسية علي الإطلاق ، أو علي الأقل لم يتكون بنفسها الطهور كالحمامة البيضاء أي كدر أو سواد أو عذاب ، إنه يحاول أن يبدو إنساناً سوي الحالة النفسية أمام الطلاب الذين يتعامل معهم ، و لكنه يفعل ذلك كمن يمشي علي الجمر أو يلوك الزجاج ! ، فإنه في قرارة نفسه يدرك جيداً أنه يعاني من عقدة ما ، إنه لا يعرف علي وجه التحديد ماذا به أو مم يعاني أو ما كنه هذا الذي يجثم علي روحه فيحرمها النور و الهواء ، ربما لأن والده كان دائماً يفقده الثقة في نفسه ، و يشعره بأنه ضئيل أقل بكثير مما يسمو إليه ، و أثناء تفكيره هذا أفلتت الضحكة المذكورة منذ قليل من ثغر الطفلة الوضاح ، فإذا بالزمن كأنه قد توقف عند تلك اللحظة ، و كأنه بدأ يرسم دوامات و دوائر متداخلة كمن ألقي بحجر في ماء راكد ، فمس الحجر قاعاً سحرياً مختفياً لبحيرة طالما بدت هادئة ساكنة غاضة الطرف عن كل شيء حولها ، و علي الفور قفزت إلي مخيلة الفتي صورته و هو طفل في مثل سنها ، و قد فقد " سنة " أيضاً من أسنانه الأمامية ، ووقف يضحك ضحكة عذبة بريئة أمام رفيقه لموقف ما لا يتذكره ، و لكن ما يتذكره جيداً و لن ينساه هو أن أباه قد قدم فجأة لينتهره بشدة لتأخره قليلاً في اللعب و يشده من ذراعه و كأنه يخلعه أو ينزعه ، ليس هذا فحسب بل يعاقبه عقاباً أليماً حالما يدخل البيت ، و عندما تصل الصورة المتحركة في ذهن الفتي إلي هذا الحد ينتفض انتفاضة خفيفة كأنه يطردها من رأسه ، و يغمض عينيه بشدة كأنه يريد أن يهرب من هذا العالم ..

و كان هناك أيضاً الطبيب " علي " ، ذلك الرجل الوقور ذو الخمسين عاماً ، و ذو الملامح الممتلئة رحمة و حناناً و نورانية ملائكية تفيض علي الجميع ، " طبيب " ! .. يالها من كلمة .. تحمل رحمة ظاهرها العذاب ، و نفساً تسيل شفقة تتظاهر بالقسوة أو الصرامة ، إنها كلمة تبعث الرهبة و الوجل و الحب و السعادة و النفحة الروحية في النفس .. كل هذا معاً في نفس الوقت ، و هاهو ينظر إلي وجه تلك الطفلة و يخطر بباله خاطران عابران متصادمان في آن واحد ، فهاهو يتذكر كيف أخطأ ذات مرة في بداية حياته المهنية فأعطي طفلة في مثل سنها تقريباً حقنة بينما لم يكن يعرف أن جسمها به حساسية من إحدي المواد المكونة لها ، إنه ما زال يتذكر كيف انتفض جسم الطفلة آنذاك و كيف تألمت بشدة ، وكيف انه تألم أكثر منها ، و لم يتركها حتي شفيت و كفر عن ذنبه الذي لم يقصده ، و لكن مجرد الغفلة في الطب جريمة ، و قد تعلم منذ ذاك الوقت الحرص الشديد في عمله و الدقة المتناهية و الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة جداً في كل المعلومات التي يتلقاها من المريض ، و يتشتت انتباه الطبيب فجأة ، فهاهو الأتوبيس يمر بمنطقته العزيزة المفضلة " باب اللوق " ، وهاهي تلك المباني العتيقة الجميلة التي تشبه صبية من عصر بعيد أدنت قرطها ومالت بخدها ذي الخال وأرسلت خصلات من خلف خمارها ذي القماش القديم الذي بهت لونه كما لو كان الغبار يطل من بعض طياته ، و ياله من سحر لتلك اللمسة الخشنة ، وهاهي تلك الصيدليات التي يعرفها جيداً بإضاءتها الضعيفة وبأثاثها الخشبي ، وهاهو ذلك الكشك الخشبي المخصص لبيع الجرائد ذو الضوء المنسكب بانسيابية و شاعرية ، و يزيد من شاعريته تلك الشجرة الكبيرة التي تظلله مائلة عليه كأنهما يتناجيان و يحكيان عما يدور حولهما ، و يختلط اللون الأخضر المريح – لون الحياة – بالضوء ذي اللون الفضي الرقيق – لون الأحلام - ، وهنا تذكر الطبيب ليلة مرت به منذ خمس سنوات ، حين ذهب يشتري من الكشك جريدة ، وكان صوت أم كلثوم يتلألأ ساطعاً في ذلك الكوخ المتواضع شادياً بأغنية " ليلة حب " ، و لكن تلك الليلة لم تكن ليلة حب بالمعني الشائع ، بل كانت أقرب إلي " ليلة سلام " أو " ليلة رحمة " ، إذ انه لما وجد الطفلة ابنة صاحبة الكشك تسعل بشدة طلب من أمها أن تصحبها لعيادته ، و رفض بشدة أن يتلقي أي أجر ، و مازال بالفتاة يلاطفها حتي استطاع أن يعطيها الحقنة المطلوبة و نفسها راضية ، و سر كثيراً عندما ارتسمت ابتسامة واسعة علي وجهها و هي تغادر العيادة بينما أمها تدعو له ، و سر أكثر عندما كان يستعد للعودة إلي منزله بعدما أنهي عيادته فلمح الأم و ابنتها من بعيد و كانت الطفلة تقضم قطعة حلوي و تبدو سعيدة ، إنه يذكر انه قد عالج الفتاة مرة أو مرتين بعد ذلك بغير أجر ، و اكتشف أنها مصابة بالأنيميا ، و أعطاها علبة أدوية ووصي أمها عليها ، فقط .. هذا كل شيء ، لم يستطع أن يكمل أكثر من ذلك ، فليس في استطاعته أن يعالج الناس مجاناً إلي الأبد ، و انتهي الأمر عند ذلك الحد بالطبع ، و لكنه في دخيلة نفسه يود لو استطاع أن يعالج العالم كله ، فإنه يعتبر كل مريض يساهم في شفائه شمعة تضاء في ثريا قلبه ، خطر كل هذا بباله بينما كان يتأمل طفلة الأتوبيس هو الآخر ، إنها في نفس العمر تقريباً أيضاً ، لكن لعلها صحيحة البدن ، إنها مازالت صغيرة جداً ، و يمكن إذا اهتم أهلها بتغذيتها أن تتجنب الأنيميا ذلك المرض الشائع بين الفتيات نتيجة للعادات الغذائية الخاطئة .. ، و يمكن .. ، و يمكن .. ، سرح الطبيب في كل ذلك بينما كان يتخيل تلك الطفلة شمعة جديدة مضافة إلي الشموع الكثيرة التي أضاءت قلبه ، و طارت نفسه إلي سماوات بعيدة ..

و في ركن منزو ٍ ، جلس الأستاذ " عبد الله " ذلك الرجل المتدين العابد و أحد كبار الموظفين في إحدي الهيئات الحكومية ، و عندما اجتذبه وجه تلك الطفلة كان في حالة من عمق التفكير و شدة الهم جعلته ينسي كل ما حوله ، إنه يشعر بذنب كبير كأنه حجر ثقيل يجثم علي صدره أو طبقات موج مظلمة تغرقه ، إنه يشعر أنه قد باع نفسه و خان ضميره ! ، لقد رأي زميله في المكتب – وهو رئيس لمجموعة صغيرة من الموظفين – وهو يتنصل من خطأ ارتكبه كان قد أمر موظفاً صغيراً بتنفيذه ، و كان هو شاهداً علي أنه قد أمره بذلك ، و لكن عندما حانت ساعة الحساب كان لابد من كبش فداء – وكان بالطبع ذلك الموظف الصغير - ، و هذا ما يمزقه .. لقد شهد كل شيء ، و لكنه لم يستطع أن ينبس ببنت شفة ، لأن الموظف الكبير صديق له حميم ، و ما دخل الصداقة في هذا ؟ - هكذا كان يحدث نفسه – آه يا عبد الله .. يا كاتم الشهادة .. يا آثم القلب .. قد حبط عملك .. و صار هباء صلاتك و صيامك .. و أنا الذي كنت طيلة عمري في نقاء الوليد .. – ثم يقع بصره علي الطفلة – أو في طهر هذه الطفلة .. ما فائدة آي القرآن التي أحفظها إذا ترديت في مهاوي الإثم و أشرفت علي بئر الهلاك .. لابد أن أفعل شيئاً ..

و عند هذا الحد يقترب الأتوبيس من المحطة التي سينزل فيها الأستاذ عبد الله ، و يهبط الرجل و قد انتوي أن يفعل شيئاً يغير به ضعف موقفه ، و كان هبوطه في ذلك الوقت من حسن حظه .. فإن الدقائق القادمة قد خبأت الكثير ، فعند تلك اللحظات .. اتخذ الأتوبيس فجأة منعطفاً جديداً ، و بدت أعمدة النور في الشارع الجانبي الذي يسير فيه و قد تضاءل نورها خجلاً من نور القمر الساطع في تلك الليلة ، و أمال الناس رؤوسهم إلي اتجاه القمر كأنهم يحاولون أن يغسلوا بنوره وجوههم التعسة المرهقة التي طحنتها الحياة ، و بينما هم كذلك و قد شرد كل بأفكاره ، و بينما الأتوبيس يقترب من محطته الأخيرة و يبطيء سرعته ، إذا بالطفلة – نجمة الأتوبيس تلك – تتحرك في هدوء و خفة و دلال ، و تقف عند سلالمه الأمامية ، و إذا بشخص يصيح فجأة مشيراً إليها : حرامية !! .. ، و في غمضة عين تقفز الطفلة من الأتوبيس الذي كان قد أبطأ سرعته كثيراً آنذاك و تختفي بين الزحام كما لو كانت الأرض قد انشقت و ابتلعتها ، و يذهل الناس و خاصة من كانوا سارحين فيها منذ برهة ، و بعد أن يفيقوا من ذهولهم تنفرج شفاههم عن ابتسامة صغيرة ، لم يعرفوا إذا ما كانت بسمة تعجب .. أم سخرية .. أم ارتياح آثم لأنهم أدركوا أنهم ليسوا وحدهم الواقعين في الآلام ، فإن من كانوا يغبطونها منذ قليل تعاني حياة شقاء ، و أدركوا أن كل ما مر بذهنهم منذ برهة كان مجرد زوبعة في فنجان ، و عندما هبطوا بعد أن توقف الأتوبيس في محطته الأخيرة ، كان كل شيء قد محي من أذهانهم كما تقشع الشمس الضباب ، و كما يذهب الورق الممزق أدراج الرياح ، و أفرغ الأتوبيس حمله وناء بحمل جديد ، و انعطف راجعاً إلي حيث بدأ لا يلوي علي شيء ، بينما سار الناس الذين كانوا فيه إلي غاياتهم و قد صاروا كنقاط صغيرة في صفحة ممتدة ما لبثت أن ابتلعها الظلام ..


بقلم : لمياء مختار