Saturday, September 15, 2012

قراءة تحليلية متميزة بشدة لروايتي " رتوش اللوحة " من إعداد الباحث الأدبي د. محمد علاء أشكره عليها شكراً جزيلاً :

 

قراءة فى رواية ( رتوش اللوحة ) للمياء مختار

بقلم / محمد علاء

 


بداية إن هذه الرواية تتعامل مع الأشياء بمنتهى البكارة ، والمواقف المحبطة فيها كثيرة ودلالتها الرمزية أقوى من الواقعية ، وتقوم أحداثها على الاسقاطات الرمزية .

فالمؤلفة تقدم أحياء القاهرة بثقافتها الشعبية المعهودة ، وتترجم كل

شىء إلى صور خارجية ومواقف بشرية ، فعى تعبر عن ضمير بيئتها وهى بيئة متصارعة داخليا وخارجيا ، ولكن لا يشعر بهذا الصراع

إلا من يعيش فيه ، وحولت المؤلفة جميع قضايا هذه البيئة إلى قضايا فلسفية مثل ( عينا الفلاح الفصيح /

الإسكافى والضرير / استضعفوا فى الأرض / حلم ولا علم ) ومن ثم اكتسبت الرواية طعما حيا ، إنها صور تتوالى ومواقف يتبع بعضها بعضا ، فالمؤلفة متمردة على مجتمعها وأن هناك خيوطا تشدها للواقع وتربطها بالمفارقات التى لا ترضى عنها .

1- العنوان وعلاقته بالمضمون :-

إذا نظرنا إلى عنوان الرواية ( رتوش اللوحة ) نجد أن المؤلفة قد وفقت كثيرا فى اختيار العنوان ، والقارىء لا يستطيع الوصول إلى دلالة العنوان من أول وهلة خاصة وأن الغلاف مرسوم فيه ( فرس جامح ) ، وقد وردت الكلمة الأولى فى العنوان بصيغة الجمع (رتوش ) فى حين الكلمة الثانية بصيغة المفرد (اللوحة ) ، مما يؤكد أن اللوحة ( مصر ) واحدة إلا أن الرتوش ( أحداث غير مفهومة ) كثيرة وقد لا ترى بالعين المجردة ، وهذا يتضح من قول المؤلفة فى صـ(102 ) أثناء حديثها عن الغنى والفقير ( لكن الفرق الحقيقى بين حاليهما يطل فجأة بعينين متوحشتين إذا ما مرض كلاهما فتم علاج الغنى غير المحتاج فورا على نفقة الدولة ، بينما داخ الفقير السبع دوخات كما يقولون ، إنه فرق النفوذ والسطوة والمكانة الاجتماعية والكلمة النافذة وهى بعينها الأشياء التى تشكل جوهر لوحة الحياة بعكس رتوشها العابرة من مظاهر غنى أو فقر ) . إذن هناك رتوش وتفصيلات لا ترى بالعين المجردة وقد تكون هذه الرتوش عبارة عن تفاصيل تأتى على مخيلة الأطفال مثل قولها فى صـ(45) ( أذكر شكلها وأذكر طفلا كان يتصفح غلاف مجلة أطفال آنذاك أمام بائع الجرائد ففكرت بجدية فى شراء المجلة رغم أنى كنت فى سن الشباب آنذاك .... أذكر رسمة الغلاف ولونه وتفاصيله الأخاذة ، لا أعرف لم أذكر هذه التفاصيل التى ليست لها رابط أو معنى , ربما لأنه كان يوما سعيدا )

وقد تكون كلمة ( رتوش ) تعنى المفاهيم المشوشة فى عقول شخصيات الرواية ذلك فى قول الروائية صــــــــــ52 ( إن الذكريات والتفاصيل الصغيرة والدقيقة بلا قيمة تقريبا ... فكرت وقتها أن الأحداث الكبرى التى تغير مسار حياة الإنسان هى ما يعول عليه ولحظات الأسرة السعيدة تتحول إلى وهم ودخان إن لم يكن لهذه الأسرة اسم .. بمعنى الشأن .. والجاه .. والمال ، هذه هى الخلاصة شئنا أم أبينا ولتذهب للجحيم لحظات السعادة والدفء للأغنياء والفقراء معا ! ربما كنت مخطئا ولكن .. ولكن كل شيء فى ذهنى الآن .) نخلص مما سبق أن الروائية قصدت من عنوان روايتها أن حياة الإنسان ما هى إلا لوحة وأن التفاصيل التى يمر بها ما هى إلا الرتوش التى تزين هذه اللوحة سواء كان تزيينا إيجابيا أو سلبيا .

فإذا انتقلنا إلى عناوين الفصول داخل الرواية نلاحظ أن الكاتبة كانت موفقة إلى حد كبير فى اختيار العناوين ، حيث سعت إلى التشويق والإثارة ونجحت فى حمل القارىء إلى قراءة الرواية حتى نهايتها

للوصول إلى مغزاها .

فقد اختارت العناوين بمهارة بحيث ترمز إلى فكرة أو تلمح إلى موقف ، فلم تختر العناوين المطولة ، فهى تتكون من كلمة واحدة مثل ( المجاز / الشك ) واستخدمت الكاتبة ( أل ) التعريف للدلالة على أن (المجاز ) هو المرحلة التى يتحول عندها الإنسان من حالة إلى أخرى ، كما أن ( الشك ) ليس شكا فى

أمر ما ، إنما هو الشك فى العقيدة وثوابت الحياة .

والعديد من عناوين فصول الرواية تم الإشارة إليها داخل متن الرسالة نفسها مثل ( ديكونستركشن ) وهو يعنى ( الهرم المقلوب ) والذى يشير إلى الفساد الاجتماعى والسياسى بطريقة مخيفة .

- الغلاف :-

فى كثير من الأحيان يعكس الغلاف القضايا التى تعالجها الرواية ، وإذا نظرنا إلى غلاف ( رتوش اللوحة ) نجد أن الغلاف يتصدره ( حصان جامح ) يشبه ما يروى فى ( السير الشعبية ) ، وقد اتضح

ذلك داخل متن الرواية صـ67 ( فى قصة الحصان المسحور بألف ليلة وليلة ) وفى أعلى اللوحة نجد

صورة للفيلم السينمائى ( حكاية العمر كله ) وفى الوسط يبدو الفانوس السحرى والذى يخرج منه دخان كثيف كتب فى وسطه عنوان الرواية ( رتوش اللوحة ) دلالة على أن هذه الرتوش لا ترى بالعين المجردة

نتيجة الركام ( الدخان ) الذى يتعمد النظام الفاسد وضعه حتى لا يشعر به الناس .

كما أن المقاربة بين صورة الحصان الجامح المعروف فى السير الشعبية وصورة الفيلم السينمائى ( حكاية العمر كله ) وبعد الانتهاء من قراءة الرواية يتأكد للقارىء أن الرواية تشير إلى رتوش اللوحة الحياتية المصرية قبيل الثورة .

- جملة الابتداء :-

إنها التى تقود القارىء وتدفعه إلى الاقبال على قراءة أى عمل أدبى ، وعن طريقها يمكن الحكم على

أسلوب الكاتب . وفى ( رتوش اللوحة ) لا تتشابه بدايات فصولها فالمؤلفة تلون وتشكل فى بدايات فصول

الرواية .

فمرة تبدأ بالوصف الدقيق لجزئيات المكان كما فى ( وسط البلد ) حيث تقول ( الزجاج الخشن يلمع من خلاله شعاع ضئيل يشق ظلمة المساء فبدا كرغوة طافية فوق سطح جدول رائق والخشب يحيط به كما لو

كان مشهدا يمهد لفلاش باك فى أحد الأفلام والزجاجات وعلب الشامبوهات ...... إلخ ) .

ومرة ثانية تبدأ الفصل بحوار مركز يجذب الانتباه إلى أطراف الصراع والشخصيات المشاركة فى الحدث ويشير إلى القضية المحورية التى يدور حولها الفصل كما فى ( كلاكيت ألف ليلة وليلة ) تقول

( على ! أريدك أن تحضر معى فى العيادة ابتداء من الغد وترانى كيف أعمل .. وشيئا فشيئا سوف تلتقط

نفس تكنيك العمل الذى أقوم به .

( بعد برهة ) :

- مالك واجما ؟

- لا شىء يا بابا .. أمرك .

لو لم أكن أود الذهاب للسينما مع أحمد و ياسر غدا .... لو لم أكن خائفا من فشلى فى الطب شديدا يلبد فى ركن بعيد من قلبى .. لو لم يكن كل ذلك لطرت فرحا بهذا التعليم المجانى الفاخر .. ولكنى مرغم ولهذا

سأكتفى بالحضور مع حذف اكتمال فرحتى من قلبى لحين إشعار آخر )

من الفقرة السابقة يتعرف القارىء على موقفين متعارضين أحدهما يمثله ( الأب ) والآخر يمثله ( الابن )

وهذه الفقرة تثير القارىء وتدفعه إلى مواصلة القراءة لمعرفة نهاية هذا الصراع .

ومرة ثالثة تضعنا فى قمة الحدث كما فى فصل ( مجرد لفتة جيد ) ( حين تقرأ فى مذكرات ( على ) ذلك

الفصل الذى يتحدث عن ( مروة ) وتلك الجمل المفعمة بالسعادة عن شعوره نحوها والتى تتسلل بين حين

وآخر فى فصول ومواقف أخرى من مذكراته ، تشعر وكأن صفحات ( مروة ) بالذات تشرق وتشع بنور

خفى غامض وسط صفحات هذه المذكرات جميعها ) .

- السرد والحوار :-

الحوار سريع جدا مما أدى إلى تلاشى الحدود الفاصلة بين السرد والحوار ، وربما يكون ذلك معادلا

موضوعيا للحياة فى مصر ، كما أن القارىء يشعر بمسحة حزن واضحة فى السرد والحوار ويكون

سببه أبعاد مادية واجتماعية أو الشعور بضياع الهوية .

كما أن لغة الرواية لا تبلغ حد الصرامة ولا تهبط إلى درجة الابتذال ، كما لم تستخدم قبيل كل جملة

حوارية أفعال القول كما نلاحظ عند بعض الروائيين ، وإنما تمهد للحوار والسرد بفعل يكشف عن

الحالة النفسية أو الحركة المصاحبة لمن يصدر عنه الصوت ، كما فى صفحة ( 31) ( ربما كانت

الشجرة والظل والأغانى هى الخيار الوحيد الذى يحصل عليه هذا الكشك المسكين .. الغريب أن أم البنت

كانت لا تلتفت إلى ألمها .. ربما لأن ألمها هى نفسها أكبر ..) إنها تمهد للحوار الذى دار بين الأم والدكتور

- مالها يا ست ( أم سيد ) ؟

أبدا يا دكتور شوية برد وهيروحوا .. هاعمل لها ينسون وهى هتبقى كويسة .

كما تضمن السرد بعض تعابير شعبية مألوفة يرددها العامة مثل ( الجوعان يحلم بسوق العيش ) صـ20

و( جاءت الحزينة تفرح ) صـ127 ، رغم أننى كنت أتمنى أن تكتب ( الجعان بدلا من الجوعان ) وتكتب

( جت ) بدلا من ( جاءت ) ، ومن التعابير الشعبية أيضا ( الكعكة فى يد اليتيم عجب ) صـ67

كما يحتوى السرد على اسقاطات عصرية كما فى صـ40 ( مجلس الشعب مثال حى على هز الرأس أيضا ، لقد صار هز الرأس طقسا مصريا صميما لا ينبغى أن نحيد عنه ! ) وعلامة التعجب هنا تثير

القارىء لأنه لا يعرف هل التعجب من هز الرأس المستمر والموافقة على كل القرارات فى مجلس الشعب

دون تفكير إرضاء للنظام ؟ أم التعجب من أنه أصبح من الطقوس التى لا ينبغى أن نحيد عنه ؟.

كما أن اندماج السرد بالآيات القرآنية والحديث الشريف منحه صفة القداسة مثل قول النبى صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات ) وقول الله سبحانه ( الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون

أنهم يحسنون صنعا )

كما نشم فى داخل السرد الشكل الشعبى ، مثل فصل ( استضعفوا فى الأرض ) فهو شكل شعبى من صنع الكاتبة ، إنها عن المقدر والمكتوب الذى لا مفر منه ، فالروائية تختفى خلف ( أم عبير ) وتدفعها

نحو قدرها ، لتعلن بموتها عن موت أمة بأكملها نتيجة الإهمال ،وتذكرنا بانتحار ( نفيسة ) فى رواية (بداية ونهاية ) لنجيب محفوظ ، وكما قال استاذنا الدكتور ( طه وادى )رحمه الله ( تحولت مصر إلى أم تأكل أبناءها ) .

وهكذا تثبت ( لمياء مختار ) أنها روائية واعدة سوف يكون لها باع طويل فى كتابة الرواية العربية ولتكون خير خلف لخير سلف .

No comments: